الصحافة والشرطة و . . . جوديث ميللر
من المهم أن تتصدى الصحافة الى أي تغول عليها من قبل السلطة، لكن الأهم أن تتصدى الصحافة وبهمة أكبر لترتيب بيتها من الداخل.
يعرف المتابعون أن جوديث ميللر صحافية أمريكية كانت أول أمرأة تتولى إدارة مكتب صحافي خارجي، حيث تولت الإشراف على مكتب «نيويورك تايمز» في القاهرة لتغطية المنطقة العربية وشملت مسؤولياتها السودان، ومن الأحداث التي غطتها مباشرة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، كما أصدرت كتابا عن الحركات الإسلامية تحت عنوان «لله (99 إسما».
وقبل سنوات ثلاث برز أسم جوديث ميللر لإرتباطه بقضية عميلة الإستخبارات الأمريكية فاليري بلامي التي تم تسريب إسمها بواسطة أحد مسؤولي إدارة بوش، وهو سكوتر ليبي المدير السابق لمكتب نائب الرئيس ديك تشيني، إنتقاما من زوجها السفير جو ويلسون المعارض للحرب على العراق. وبما أن عملية التسريب هذه تعتبر مضرة بالأمن القومي، فقد إضطر بوش الى تعيين مدع خاص للتحقيق فيمن قام بالتسريب. جوديث كانت من الصحافيين الذين عرفوا إسم هذه العميلة في موضوع كانت تعده، لكنها لم تنشره قط، ورغم ذلك خضعت لتحقيق المدعي العام، الذي طالبها بالكشف عن المصدر الرسمي الذي تحدث لها عن إسم العميلة، لكنها رفضت إحتراما لمبدأ صحافي أخلاقي بعدم الكشف عن مصادر الأخبار الا بموافقتها. وبما انها تخضع لتحقيق قضائي فقد أتهمت بتعويق العدالة وحكم عليها بالسجن، وبالفعل إستنفذت كل مراحل التقاضي ودخلت الى السجن لتقضي فيه (85) يوما دفاعا عن حق الصحافة في حماية مصادرها. وأفرج عنها بعد أن أحلها ليبي من وعدها له ومن ثم أفضت للقاضي بإسمه.
لم تهلل «نيويورك تايمز» لجوديث ميللر، بعد الإفراج عنها، كونها بطلة من أبطال حرية الصحافة، وإنما قامت بتكليف فريق خاص برئاسة أحد نواب مدير التحرير للتحقيق في هذه الحالة تحديدا وفي موضوعات أخرى تتعلق بكتاباتها حول أسلحة الدمار الشامل وكيفية إدارة التحرير لمسؤولياتها. أعد الفريق تحقيقا معمقا من (6200) كلمة، أي سبعة أضعاف حجم هذا المقال، وتحدث عن سلسلة الأخطاء التي أرتكبتها جوديث ميللر خاصة في جوانب التعامل مع المصادر التي لا ترغب في الكشف عن نفسها، مثل الإشارة الى سكوتر ليبي في مذكراتها على انه مصدر في الكونجرس بينما هو في الإدارة التنفيذية، وهذا خطأ مهني أخلاقي لأنه يعتبر تضليلا للقارىء، وكذلك الأخطاء التي وقعت فيها إدارة التحرير بعدم التدقيق والمراجعة. ثم عقب المحرر العام، الذي يعتبر عين القراء داخل الصحيفة وكتاباته ليست خاضعة لرقابة أية جهة حتى رئيس التحرير، قائلا انه لا يرى مستقبلا لجوديث ميللر في الصحيفة. وفعلا تم التوصل معها الى اتفاق تترك فيه الصحيفة بعد مشوار مهني متميز حصلت فيه حتى على جائزة بوليتزر، وهي أرفع جائزة أمريكية تعطي لصحافي.
مناسبة هذا الحديث ما شهدته الصحافة السودانية الأسبوع الماضي من مواجهة مع الشرطة بسبب قضية التسريبات الخاصة بإحالة بعض قيادات الشرطة الى التقاعد. فالى جانب التغطية المكثفة لما حدث، الا ان الجانب الخاص بالأداء الداخلي وكيفية ضمان عدم تكرار مثل هذا الوضع مستقبلا لم يرشح عنه شىء عدا نشر تصحيح للخبر، وهذا هو الأساس في التأسيس والحفاظ على المصداقية التي هي رأسمال الصحافي ومؤسسته. ويلاحظ بداية ان خطوة «النيويورك تايمز» جاءت من الصحيفة نفسها ولم تكن نتيجة لتدخلات من إتحاد الصحافيين او إستجابة لمتطلبات ميثاق الشرف الصحافي، وإنما إستشعارا لمسؤولية داخلية وتلبية لإستحقاقات المهنة وحقها على قرائها.
الملاحظة الثانية والمهمة ان الصحيفة لم تكتف بإجراءات داخلية للتحقيق وتعديل الوضع وإنما عملت على إشراك جمهرة القراء من خلال نشر الموضوع في الصفحة الأولى مع بقيته في الصفحات الداخلية.
ثالثا: ان تاريخ جوديث ميللر ومسيرتها المهنية الحافلة عبر (28) عاما قضتها في الصحيفة لم تشفع لها عند إرتكاب أخطاء مهنية. فالتحدي الصحافي وهو تحد مستمر يوميا لا يقبل العيش على انجازات الماضي.
رابعا: ان الصحافة الأمريكية ورغم تاريخها الطويل والإمكانات المتاحة لها وحقوقها المكفولة دستوريا تظل مواجهة بمتاعب خارجية وداخلية. فالقانون، بغض النظر عن الوضع السياسي القائم، لا يعطي الصحافيين أو أية مهنة أخرى مرتبة تميزهم عن بقية المواطنين، لذا أعتبرت جوديث ميللر معوقة للعدالة وسيقت الى السجن. لكن رغم الأخطاء التي أرتكبت فأن النظام الداخلي يسمح بالمراجعة وتسليط الضوء على الأخطاء ومن ثم تصحيحها. ثم ان مثل هذه الخطوة لا تتطلب إمكانات ولا خبرات و لاحماية دستورية.
ان أخذ النفس بالشدة في هذا المجال يبدو مطلوبا لسببين أساسيين أولهما: ان الجسم الصحافي اذا لم يرتب أموره نفسه بأن يفتح الباب أمام جهات أخرى للقيام بهذه المهمة تحت مختلف الذرائع. فليس كافيا الإعتذار بعدم الوصول الى المصادر أو إتهام جهات في الشرطة بتسريب أخبار معينة خدمة لأجندة ما، لأن مهمة الصحافي الإستيثاق والسعي ما أمكن للوصول الى الحقيقة. فالحراك السياسي الكبير الذي يعيشه السودان يجعل من التسريبات ممارسة عادية والصحافة المسؤولة والمهنية لا تقع في مثل هذا الفخ وهناك آليات معروفة للتعامل مع هذا الوضع خاصة والخبر الذي لا يستند الى مصدر محدد تتحمل فيه الصحيفة مسؤولية أكبر.
أما الجانب الثاني فهو ان الصحافة التي تطالب الأحزاب والدولة بترتيب أمورها والتصرف بمسؤولية تحتاج هي نفسها أن تضع موضع التنفيذ ما تنصح به الآخرين.
من المهم أن تتصدى الصحافة الى أي تغول عليها من قبل السلطة، لكن الأهم أن تتصدى الصحافة وبهمة أكبر لترتيب بيتها من الداخل.
يعرف المتابعون أن جوديث ميللر صحافية أمريكية كانت أول أمرأة تتولى إدارة مكتب صحافي خارجي، حيث تولت الإشراف على مكتب «نيويورك تايمز» في القاهرة لتغطية المنطقة العربية وشملت مسؤولياتها السودان، ومن الأحداث التي غطتها مباشرة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، كما أصدرت كتابا عن الحركات الإسلامية تحت عنوان «لله (99 إسما».
وقبل سنوات ثلاث برز أسم جوديث ميللر لإرتباطه بقضية عميلة الإستخبارات الأمريكية فاليري بلامي التي تم تسريب إسمها بواسطة أحد مسؤولي إدارة بوش، وهو سكوتر ليبي المدير السابق لمكتب نائب الرئيس ديك تشيني، إنتقاما من زوجها السفير جو ويلسون المعارض للحرب على العراق. وبما أن عملية التسريب هذه تعتبر مضرة بالأمن القومي، فقد إضطر بوش الى تعيين مدع خاص للتحقيق فيمن قام بالتسريب. جوديث كانت من الصحافيين الذين عرفوا إسم هذه العميلة في موضوع كانت تعده، لكنها لم تنشره قط، ورغم ذلك خضعت لتحقيق المدعي العام، الذي طالبها بالكشف عن المصدر الرسمي الذي تحدث لها عن إسم العميلة، لكنها رفضت إحتراما لمبدأ صحافي أخلاقي بعدم الكشف عن مصادر الأخبار الا بموافقتها. وبما انها تخضع لتحقيق قضائي فقد أتهمت بتعويق العدالة وحكم عليها بالسجن، وبالفعل إستنفذت كل مراحل التقاضي ودخلت الى السجن لتقضي فيه (85) يوما دفاعا عن حق الصحافة في حماية مصادرها. وأفرج عنها بعد أن أحلها ليبي من وعدها له ومن ثم أفضت للقاضي بإسمه.
لم تهلل «نيويورك تايمز» لجوديث ميللر، بعد الإفراج عنها، كونها بطلة من أبطال حرية الصحافة، وإنما قامت بتكليف فريق خاص برئاسة أحد نواب مدير التحرير للتحقيق في هذه الحالة تحديدا وفي موضوعات أخرى تتعلق بكتاباتها حول أسلحة الدمار الشامل وكيفية إدارة التحرير لمسؤولياتها. أعد الفريق تحقيقا معمقا من (6200) كلمة، أي سبعة أضعاف حجم هذا المقال، وتحدث عن سلسلة الأخطاء التي أرتكبتها جوديث ميللر خاصة في جوانب التعامل مع المصادر التي لا ترغب في الكشف عن نفسها، مثل الإشارة الى سكوتر ليبي في مذكراتها على انه مصدر في الكونجرس بينما هو في الإدارة التنفيذية، وهذا خطأ مهني أخلاقي لأنه يعتبر تضليلا للقارىء، وكذلك الأخطاء التي وقعت فيها إدارة التحرير بعدم التدقيق والمراجعة. ثم عقب المحرر العام، الذي يعتبر عين القراء داخل الصحيفة وكتاباته ليست خاضعة لرقابة أية جهة حتى رئيس التحرير، قائلا انه لا يرى مستقبلا لجوديث ميللر في الصحيفة. وفعلا تم التوصل معها الى اتفاق تترك فيه الصحيفة بعد مشوار مهني متميز حصلت فيه حتى على جائزة بوليتزر، وهي أرفع جائزة أمريكية تعطي لصحافي.
مناسبة هذا الحديث ما شهدته الصحافة السودانية الأسبوع الماضي من مواجهة مع الشرطة بسبب قضية التسريبات الخاصة بإحالة بعض قيادات الشرطة الى التقاعد. فالى جانب التغطية المكثفة لما حدث، الا ان الجانب الخاص بالأداء الداخلي وكيفية ضمان عدم تكرار مثل هذا الوضع مستقبلا لم يرشح عنه شىء عدا نشر تصحيح للخبر، وهذا هو الأساس في التأسيس والحفاظ على المصداقية التي هي رأسمال الصحافي ومؤسسته. ويلاحظ بداية ان خطوة «النيويورك تايمز» جاءت من الصحيفة نفسها ولم تكن نتيجة لتدخلات من إتحاد الصحافيين او إستجابة لمتطلبات ميثاق الشرف الصحافي، وإنما إستشعارا لمسؤولية داخلية وتلبية لإستحقاقات المهنة وحقها على قرائها.
الملاحظة الثانية والمهمة ان الصحيفة لم تكتف بإجراءات داخلية للتحقيق وتعديل الوضع وإنما عملت على إشراك جمهرة القراء من خلال نشر الموضوع في الصفحة الأولى مع بقيته في الصفحات الداخلية.
ثالثا: ان تاريخ جوديث ميللر ومسيرتها المهنية الحافلة عبر (28) عاما قضتها في الصحيفة لم تشفع لها عند إرتكاب أخطاء مهنية. فالتحدي الصحافي وهو تحد مستمر يوميا لا يقبل العيش على انجازات الماضي.
رابعا: ان الصحافة الأمريكية ورغم تاريخها الطويل والإمكانات المتاحة لها وحقوقها المكفولة دستوريا تظل مواجهة بمتاعب خارجية وداخلية. فالقانون، بغض النظر عن الوضع السياسي القائم، لا يعطي الصحافيين أو أية مهنة أخرى مرتبة تميزهم عن بقية المواطنين، لذا أعتبرت جوديث ميللر معوقة للعدالة وسيقت الى السجن. لكن رغم الأخطاء التي أرتكبت فأن النظام الداخلي يسمح بالمراجعة وتسليط الضوء على الأخطاء ومن ثم تصحيحها. ثم ان مثل هذه الخطوة لا تتطلب إمكانات ولا خبرات و لاحماية دستورية.
ان أخذ النفس بالشدة في هذا المجال يبدو مطلوبا لسببين أساسيين أولهما: ان الجسم الصحافي اذا لم يرتب أموره نفسه بأن يفتح الباب أمام جهات أخرى للقيام بهذه المهمة تحت مختلف الذرائع. فليس كافيا الإعتذار بعدم الوصول الى المصادر أو إتهام جهات في الشرطة بتسريب أخبار معينة خدمة لأجندة ما، لأن مهمة الصحافي الإستيثاق والسعي ما أمكن للوصول الى الحقيقة. فالحراك السياسي الكبير الذي يعيشه السودان يجعل من التسريبات ممارسة عادية والصحافة المسؤولة والمهنية لا تقع في مثل هذا الفخ وهناك آليات معروفة للتعامل مع هذا الوضع خاصة والخبر الذي لا يستند الى مصدر محدد تتحمل فيه الصحيفة مسؤولية أكبر.
أما الجانب الثاني فهو ان الصحافة التي تطالب الأحزاب والدولة بترتيب أمورها والتصرف بمسؤولية تحتاج هي نفسها أن تضع موضع التنفيذ ما تنصح به الآخرين.
السر سيد احمد - الرأي العام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق