ربما لا تكون هناك مناسبة معينة خلال الأسبوع لهذا الموضوع، لكنه من ناحية لا يحتاج لمناسبة خاصة، لأن داعي كتابته موجود في كل لحظة. فالصحافة السودانية تتعرض لكثير من النقد من الحكومة والقوى السياسية والجمهور، ويتم تحميلها وزر الفشل والاحتراب...وأحيانا الدعوة للفتنة. والغريب أن الاتهام يأتي أحيانا من صانعي الفتنة أنفسهم.في بداية حكم الإنقاذ روج السيد الصادق المهدي، وكثير من أنصاره لفكرة أن الصحافة والنقابات هما المسؤولان ولعن هزيمة الحكم الديمقراطي والتمهيد للانقلاب الذي جاء بالإنقاذ، لأن الطرفين أكثرا من انتقاد حكومته وتحديه وتسببا في إضعافه مما هيأ الجو للانقلاب، بينما الحقيقة أن الصحافة عكست الواقع الموجود.وطوال سنوات حكم الإنقاذ لم توفر الحكومة وقادتها فرصة لم يوجهوا فيها سهام النقد والهجوم على الصحافة ويطلقون عليها كثير من الاتهامات التي تصل أحيانا لحد الدمغ بالعمالة وخدمة المخططات الأجنبية، وهي حيلة معروفة في ظل الأنظمة الشمولية.وكثير من هذه الاتهامات ترد على بعضها لأنها متناقضة، فهناك اتهام بأن الصحافة السودانية ضعيفة في أدائها لدرجة عدم التأثير، وأنها عاجزة عن إرضاء القارئ ولا تقدم الأخبار والتقارير والتحليل الذي يتوقعه والتغطية الصحفية المطلوبة للأحداث. ثم نسمع اتهامات أخرى تحمل الصحافة نتيجة كثير من الأحداث والمواقف السياسية، بما يعني في النهاية أنها مؤثرة ومسيطرة على عقل وذهن القارئ، وليس مجرد أي قارئ، ولكن صانع القرار.ودعنا نسرد بعضا من هذه الاتهامات:بعض الناقدين لا تعجبهم الصحافة السودانية، لأنها ليست جيدة بما يكفي من ناحية التغطية الإخبارية ولضعف مواد الرأي والتصميم والطباعة الفقيرة، وهذا من حقهم. لكن، ولو كنا أمينين مع أنفسنا فأي مؤسسة أو جانب من حياتنا يسير بشكل جيد بما يكفي؟.. الحكومة وأجهزتها..؟ الأحزاب السياسية؟ منظمات المجتمع المدني؟ المؤسسات الاقتصادية؟ المؤسسات التعليمية والجامعات والمعاهد؟ الخدمات الصحية والمستشفيات...؟أي من هذه الأجهزة والمؤسسات تؤدي عملها بشكل ممتاز ..أو على الأقل "جيد بما يكفي"؟؟! كل هذه المؤسسات والأجهزة معاقة بشكل ما ومقيدة بالظروف العامة التي يعيشها السودان والتي تجسد نموذج فشل الدولة الوطنية..وكذلك الصحافة.إذن فإن المقاييس التي تستخدم لتقييم وضع الصحافة السودانية ليست موضوعية، ولا يمكن مقارنة الصحافة السودانية بصحافة بلد آخر تختلف ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.ليس عيبا أن تشبه الصحافة السودانية الواقع السوداني، ربما يكون مطلوبا منها أن تسبقه قليلا، أن تتقدم عليه لتصبح هاديا ودليلا نحو التقدم، لكنها في كل الأحوال يجب أن تحمل الجينات السودانية وتكتسب الطابع السوداني.توجد في بلاد قريبة منا صحافة متقدمة من النواحي التقنية، التصميم والطباعة والإخراج والورق المصقول، وبل وحتى المضمون، لكنها تعجز عن إقامة علاقة حميمة مع القارئ والواقع المحلي لتلك البلاد، وذلك ببساطة لأنها ليست صناعة محلية ولا هي بنت الواقع المحلي، وليس هذا ما نتمناه للصحافة السودانية.ثاني أكثر الاتهامات شيوعا هو الاتهام بغياب المسؤولية الوطنية لدى الصحافة والصحفيين، وأنها كثيرا ما تهدد استقرار البلد وأمنه الوطني للخطر، وهذا اتهام معلق في الهواء، بلا وقائع أو أدلة تسنده. بل يمكن القول بشكل واضح أن الصحافة السودانية ما تزال تنقصها الجرأة والشجاعة في اقتحام كثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخطيرة وأنها مقصرة في نقد الأجهزة الحكومية والمؤسسات التي تكتسب نوعا من القداسة غير المطلوبة.المشكلة لدينا أن هناك خلطا بين الدولة والحكومة، بين المؤسسات والأفراد، بين الحق العام والخاص. لو ارتكب أي فرد أو جهاز أو مؤسسة، ولنقل فرضا جهاز الأمن أو القوات المسلحة أو الشرطة، أي تجاوز في حق الوطن أو المواطنين، فإن واجب الصحافة الأول هو فضح ذلك ونشره والمناداة بمحاسبة المخطئين. هذا ما يحدث في كل الدنيا، أما عندنا فإن هذا سيسمى تجاوزا وانتهاكا وتهديدا للاستقرار والأمن الوطني، ويسمى نقد ضابط بالشرطة أو القوات المسلحة إساءة للمؤسسة، وفي الحقيقة فإن الصحافة السودانية كما ذكرت ما تزال عاجزة عن ممارسة النقد بهذه الجرأة، وهذا ما تستحق النقد فيه.ما تزال كثير من قضايا الفساد يتم مداولتها شفاهة في المكاتب وأروقة الصحف والمؤسسات دون أن تجد طريقها للنشر بسبب المجاملات والتربية الخاطئة التي تعتبر فضح مثل هذه الممارسات ليس من الأخلاق في شئ. وما تزال كثير من الأحداث السياسية والتاريخية مبهمة لأن السعي وراء تجلية أسرارها سيمس بالضرورة أدوارا سالبة لقيادات سياسية راحلة، وحسب العرف الاجتماعي والثقافي السائد فإن كل زعيم سياسي أو قيادي أو وزير راحل صار من المقدسات التي لا يجب أن تمس ولا تذكر إلا بالخير.ورغم تنوع المواقف السياسية للصحف السودانية، إلا أنها عرضة أيضا للاتهام بالوقوف، كلها في جانب سياسي واحد. فقيادات الحركة الشعبية كثيرا ما يوجهون نقدا لما يسمونه "صحافة الشمال" وكأنها كتلة واحدة معادية للحركة الشعبية، ونسمع نفس الاتهام من بعض قيادات الحركات المسلحة في دارفور. وهو أيضا من نوع الاتهامات المجانية وغير المدروسة. فمن ناحية التغطية الإخبارية للمواقف والتصريحات فإن الصحافة السودانية، بشكل عام، تعطي مساحات مقدرة لنشاطات وتصريحات قيادات هذه الحركات. لا يغيب عن صفحات الصحف وبشكل يومي ياسر عرمان واتيم قرنق وتابيتا بطرس وأحيانا تيلار دينق ودينق ألور، كما لا يغيب خليل إبراهيم وعبد الواحد وعبد الشافع ودريج ومناوي ومحجوب حسين عن صفحات الصحف يوما واحدا، وكذلك تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية عن دارفور والتي هي قي معظمها ناقدة لمواقف الحكومة السودانية. أما لو تمت المحاسبة على أساس أن مواد الرأي غير متعاطفة مع مواقف هذه الحركات فهذا شئ آخر.ثم يأتي اتهام آخر بضعف المادة المقدمة والضعف العام للأداء المهني، وهذا اتهام مقبول ومعقول، لأنه ينطلق أولا من عشم في دور أكبر للصحافة، ومن توقع إيجابي يحتم على المجتمع الصحفي قبوله ومناقشته واتخاذه مدخلا لتطوير المهنة. لكن غير المعقول هو الوصول للطرف الآخر من الاتهام بافتراض أن الصحافة عاجزة تماما عن تقديم شئ إيجابي وأنها فارغة من أي مضمون، يقول لك ذلك شخص تلتقيه في مناسبة عامة أو وسيلة مواصلات، ثم يرمي بالصحيفة جانبا. هذا هو نوع الاتهام الجزافي الذي لا يمكن السكوت عليه.الصحف اليومية هي الآن أكبر وأوسع منبر لمناقشة قضايا البلاد وطرح الآراء الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية، بل وممارسة النشاط السياسي. وكثير من الأحزاب والشخصيات السياسية تمارس نشاطها على صفحات الصحف أكثر مما تمارسه في الميدان مع القواعد الجماهيرية. أوسع وأضخم مناقشات حول اتفاق السلام ومدى الالتزام بتطبيقه تدور على صفحات الصحف...وليس في الاجتماعات المغلقة بين الشريكين، ويمكن أن نعدد كثير من مثل هذا. وإذا اعترف الشخص بهذا الدور للصحافة، وبالقدر المعتبر لمساهمتها، ثم انطلق من هنا لنقدها فإنه يكون أقرب للموضوعية. ويمكن بعد هذا رصد الكثير من مظاهر الضعف في الأداء الصحفي، كما يمكن رده لأسباب كثيرة. فبعض جوانب القصور يعود للظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها بلادنا وتتسبب في تكبيل كثير من المؤسسات، وبعضها يعود للأجواء القانونية التي أحاطت بالصحافة وأجهزة الإعلام خلال السنوات السابقة، كما يعود بعضها للصحف والصحفيين أنفسهم. نظن أن التناول الموضوعي يجب ألا يغفل أيا من هذه العناصر، وعندها يمكن أن تكون هناك مناقشات طويلة ومثمرة. لو قمنا بمحاولة عشوائية لرصد ما قدمته الصحف خلال شهرين لوجدنا مادة ضخمة ومنوعة لا يمكن تجاهلها، مثل مقالات د.التجاني عبد القادر بهذه الصحيفة، والتي لا تزال تثير ردود أفعال كثيرة، ترجمة مقالات اليكس دووال عن مفاوضات أبوجا التي قامت بها الزميلة "الرأي العام"، تحقيقات حرب العفاف التي نشرتها الزميلة "السوداني"، الجدال المطول في صحف كثيرة حول رفض أو قبول القوات الدولية ثم قبول حزمة أبوجا، حوارات "الرأي العام" عن استعداد الأحزاب للانتخابات، تحقيقات "الصحافة" من القضارف، الرصد المكثف للأوضاع في جنوب وشمال كردفان واحتمال انفجارها، التحقيقات والمواد الرياضية عن مسألة الاحتراف في كرة القدم....الخالصحافة السودانية الآن، خاصة بعد رفع الرقابة، هي ديوان الحياة المعاصرة في البلاد، وسجلها الموثق، والمرآة التي لا تكذب، تشبهنا ونشبهها، تماثل واقعنا بكل ما فيه من مشاكل ومثالب وعيوب، ويجب أن تكون هذه نقطة في صالحها، وليس منقصة تحتسب عليها.
نقلا عن الصحافة 21يناير 2007
نقلا عن الصحافة 21يناير 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق